سورة فصلت - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فصلت)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {وقال الذين كفروا} وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب: {ربنا أَرِنَا اللذَيْنِ أَضَلاَّنا من الجن والإنس}، يعنون الفريقين الحاملين على الضلال، من شياطين الجن والإنس، بالتسويل والتزيين، وقيل: هما إبليس وقابيل، فإنهما سنّا الكفر والقتل، وقرىء بسكون الراء تخفيفاً، كفَخِذ وفخْذ، وبالاختلاس، أي: أبصرناهما، {نَجْعَلْهُما تحت أقدامنا} أي: ندسهما تحت أرجلنا، انتقاماً منهما، أو: نجعلهما في الدرك الأسفل {ليكونا من الأسفلين} ذلاًّ ومهانةً، أو: مكاناً، جزاء إضلالهم إيانا.
الإشارة: كل مَن سقط عن درجة المقربين العارفين، وتعوّق عن صحبتهم، بسبب تعويق أحد، تمنى يوم القيامة أن يكون تحت قدمه، ليكون أسفل منه، غيظاً وندماً، ولا ينفع التمني والندم في ذلك اليوم. وبالله التوفيق.


يقول الحق جلّ جلاله: {إِن الذين قالوا ربُّنا الله} أي: نطقوا بالتوحيد واعتقدوا، {ثم استقاموا} أي: ثبتوا على الإقرار ومقتضياته من حسن الأعمال، وعن الصدّيق رضي الله عنه: استقاموا فعلاً، كما استقاموا قولاً. وعنه: أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا، قال: حملتم الأمر على أشده، قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله عنه: لم يَرُوغوا رَوَغان الثعالب، أي: لم ينافقوا. وعن عثمان رضي الله عنه: أحكموا العمل، وعن عليّ رضي الله عنه: أدُّوا الفرائض. وعن الفُضيل: زهدوا في الفانية، ورغبوا في الباقية. قلت: ويجمعها الإقرار بالربوبية، والقيام بوصائف العبودية.
{تَتَنزَّلُ عليهم الملائكةُ} عند الموت، وفي القبر، وعند البعث، أو: في الدنيا بإلهام الخير وشرح الصدر، وإعانتهم على الأمور الدينية، كما أن الكفرة تقويهم ما قُيض لهم في قرناء السوء. والأظهر: العموم. {ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا} ف أن مخففة، أو: تفسيرية، أي: لا تخافوا ما تٌقدمون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم، فالخوف: غم يلحق لتوقع مكروه، والحزن: غم يلحق لفوات نافع، أو حضور ضارٍّ. والمعنى: أن الله تعالى كتب لكم الأمنَ من كل غم، فلن تذوقوه أبداً. {وأبْشِروا بالجنة التي كنتم تُوعدون} في الدنيا على ألسنة الرسل. وقال محمد بن علي الترمذي: تتنزل عليهم ملائكة الرحمة، عند مفارقة الأرواح الأبدان، ألا تخافوا سلب الإيمان، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان، وأبشروا بدخول الجنان، التي تُوعدون في سالف الأزمان.
{نحن أولياؤُكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة}، كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين. {ولكم فيها ما تشتهي أنفسُكم} من فنون الطيبات، {ولكم فيها ما تَدَّعون}؛ ما تتمنون، افتعال من الدعاء، بمعنى الطلب، {نُزُلا}: حال من مفعلو {تَدّعون} المحذوف، أو: من {ما}، والنُزُل: ما يقدم للنزيل، وفيه تنبيه على أن ما يتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم النعيم كالنُزُل للضيف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إن الذين أقرُّوا بقهرية الربوبية، وقاموا بوظائف العبودية، تتنزل عليهم الملائكة بالبشارة الأبدية. قال القشيري: فأما الاستقامة فهي الثباتُ على شرائط الإيمان بجملتها، من غير إخلالٍ بشيء من أقسامها.
ثم قال: مَن كان له أصل الاستقامة، وهي التوحيد، أَمِنَ من الخلود في النار، ومَن كان له كمال الاستقامة أَمِنَ من الوعيد، من غير أن يلحقه سوء بحالٍ. ويقال: استقاموا على دوام الشهود، وانفراد القلب بالمعبود، أو: استقاموا في تصفية العقد، ثم في توفية العهد، ثم في صحة القصد، بدوام الوجد، أو: استقاموا بأقوالهم، ثم بأعمالهم، ثم بصفاء أحوالهم، في وقتهم وفي مآلهم، أو: داموا على طاعته، واستقاموا في معرفته، وهاموا في محبته، وقاموا بشرائط خدمته.
واستقامة العابد: ألا يعود إلى الفترة واتباع الشهوة، ولا يدخله رياء ولا تصنُّع، واستقامةُ العارف: ألا يشوب معرفته حظ في الدارين، فيحجب به عن مولاه، واستقامةُ المحبين: ألا يكون لهم أرب من غير محبوبهم؛ يكتفون من عطائه ببقائه، ومن مقتضى جوده بدوام عِزِّه ووجوده. اهـ.
وقوله تعالى: {تتنزل عليهم الملائكة} أي: تمدهم بالاهتداء والأنوار، وتلهمهم العلوم والأسرار، في مقابلة تقييض الغافل بالقرناء الأشرار، فكما أن الغافل يخذل بتسليط الغواة في الدارين، كذلك العارف يُمد ويُنصر من قِبل الملائكة في الدارين.
وقوله تعالى: {ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا} أي: حيث وجدتم الله لا تخافوا من شيء، ولا تحزنوا على فوات شيء، إذ لم يفتكم شيء، وماذا فقط من وجده؟
قال القشيري: لا تخافوا من عزلة الولاية، ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الجناية، وأبشروا بحسن العناية، أو: لا تخافوا مما أسلفتم، ولا تحزنوا على ما خلَّفتم، وأبشروا بالجنة التي وعدتم. أو: لا تخافوا المذلَّة، ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الزلَّة، وأبشروا بدوام الوصلة. اهـ.
ثم قال في قوله تعالى: {نحن أولياؤكم}: الولاية من الله تعالى بمعنى المحبة، وتكون بمعنى النصرة، وهذا الخطاب بقوله: {نحن أولياؤكم}، يحتمل أن يكون من قِبَلِ الملائكة، الذين يتنزلون عليهم، ويحتمل أن يكون ابتداء خطابٍ من الله تعالى، والنصرة تصدر من المحبة، ولو لم تكن المحبة الأزلية لم تكن تحصل النصرة في الحال. اهـ. وكونه من الملائكة أظهر، كما تقدّم. والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {ومَن أحسنُ قولاً ممن دعا إِلى اللهِ} أي: إلى الإقرار بربوبيته، والاستقامة على عبوديته، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من أمته، الدعاة إلى الله في كل عصر، أي: لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى معرفة الله، {وعَمِل صالحاً} فيما بينه وبين ربه، بأن عمل أولاً بما دعا إليه، {وقال إِنني من المسلمين} تفاخراً بالإسلام، وابتهاجاً بأنه منهم، واتخاذ الإسلام ديناً، من قولهم: هذا قول فلان، أي: مذهبه؛ لأنه يتكلم بذلك، أو: يقوله تواضعاً، أي: من جملة عامة المسلمين.
{ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ}، هذا بيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد، إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب عزّ وجل ترغيباً للدعاة إلى الله في الصبر على إذاية الخلق، لأن كل مَن يأمر بالحق يُؤذَى، فأُمروا بمقابلة الإساءة بالإحسان، أي: لا تستوي الخصلة الحسنة والخصلة السيئة، و{لا}: مزيدة، لتأكيد النفي، {ادفع بالتي هي أحسنُ} أي: ادفع السيئة التي اعترضتك من بعض أعدائك بالتي هي أحسن منها، وهي: أن تُحسن إليه في مقابلة إساءته، فالحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها، وادفع بها السيئة، كما لو أساء إليك رجل، فالحسنة: أن تعفو عنه، والتي هي أحسن: أن تُحسن إليه مكان إساءته، مثل أن يذمك فتمدحه، ويحرمك فتعطيه، ويقطعك فتصله. وعن ابن عباس رضي الله عنه: التي هي أحسن: الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة. اهـ.
{فإِذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم} أي: فإنك إن فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقق مثل وليك الحميم الشفيق، مصافاة لك، وهذا صعب على النفوس، ولذلك قال: {وما يُلقاها إلا الذين صبروا} أي: ما يلقى هذه الخصلة التي في مقابلة الإساءة بالإحسان إلا أهل الصبر، {وما يُلقاها إِلا ذو حظ عظيم} من الله تعالى وسبق عنايته بكمال النفس وتهذيبها. وعن ابن عباس رضي الله عنه: الحظ العظيم: الثواب، وعن الحسن: والله ما عظم حظ دون الجنة. وقيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان عدوّاً مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم فصار وليّاً مصافياً له، وبقيت عامة.
{وإِما يَنزغنَّك من الشياطن نزغٌ}، النزغ: شِبه النخس، والشيطان ينزغ الإنسان، كأنه ينخسه، يبعثه على ما لا ينبغي، وجعل النزغ نازغاً مجاز، كجدّ جدّه، والمعنى: وإن طرقك الشيطان على ترك ما وُصِّيْتَ به من الدفع بالتي هي أحسن، {فاستعِذْ بالله} من شرِّه، وامضِ على حلمك ولا تُطعه، {إِنه هو السميعُ} لاستعاذتك، {العليمُ} بنيتك وتعلقك به، أو: بنزغ الشيطان ووسوسته. وهو تعليم لأمته صلى الله عليه وسلم إذ كان شيطانه أسلم على يده.
الإشارة: قال القشيري: قيل: الداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى الاكتفاء بالله، وتَرْكِ طلب العِوَض من الله، بل يَكِلُ أمره إلى الله، ويرضى من الله بقسمة الله. ثم قال: {وعَمِلَ صالحاً} كما يدعو الخلق إلى الله يأتي بما يدعوهم إليه، ويقال: هم الذين عرفوا طريقَ الله، ثم دعوا بعدما عرفوا الطريقَ إلى الله الخلقَ إلى الله، {وقال إِنني من المسلمين} لحكمه، الراضين بقضائه وتدبيره. اهـ.
وقال الشاذلي رضي الله عنه: عليك برفض الناس جملة، إلا مَن يدلك على الله، بإشارةٍ صادقة، وأعمال ثابتة، لا ينقضها كتاب ولا سُنَّة. اهـ. وشروط الداعي إلى الله على طريق المشيخة أربعة: علم صحيح، وذوق صريح، وهمّة عالية، وحالة مرضية، كما قال زروق رضي الله عنه. وقال الشريشي في رائيته:
وللشيخ آياتٌ إذا لَن تَكنّ له *** فما هُو إلا في ليالي الْهَوَى يَسْرِي
إذا لَمْ يكن عِلْم لَديْهِ بِظَاهرٍ *** ولاَ باطنٍ فاضْرِبْ بِهِ لُجَجَ الْبَحْرِ
أما العلم الظاهر فإنما يشترط منه ما يحتاج إليه في خاصة نفسه، ويحتاج إليه المريد في حال سفره إلى ربه، وهو القَدْر الذي لا بُد منه، من أحكام الطهارة والصلاة ونحو ذلك، ولا يشترط التبحُّر في علم الشريعة. قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه: صحبت أبا علي المسندي، فكنت أُلقنه ما يُقيم به فرضه، وكان يعلمني التوحيد والحقائق صِرفاً. اهـ. ومن المعلوم أن الشيخ ابن عباد لم يُفتح عليه إلا على يد رجل عامي، وقد تحققت تربية كثير من الأولياء، كانوا أميين في علم الظاهر. وأما علم الباطن فالمطلوب فيه التبحُّر التام؛ إذ المقصود بالذات في الشيخ المصطلح عليه عند القوم هو هذا العلم؛ لأن المريد إنما يطلب الشيخَ ليسلكه ويعلمه علم الطريقة والحقيقة؛ فيكون عنده علم تام بالله وصفاته وأسمائه، ذوقاً وكشفاً، وعلم بآفات الطريق، ومكائد النفس، والشيطان، وطرق المواجيد، وتحقيق المقامات، كما هو مقرر في فنه، وهذا الداعي لا تخلو الأرض منه على الكمال، خلافاً لمَن حكم بانقطاعه. والله تعالى أعلم.
وفي الإحياء: المقتدى به هو الذي استقام في نفسه، واستنار قلبه فانتشر نوره إلى غيره، لا مَن يُظهر خلاف ما هو عليه ليُقتدى به، فإنه مُلَبِّس، لم ينصح لنفسه، فكيف بغيره؟. اهـ.
قال الورتجبي: ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله، أي: ممن عرف الله بعد أن رآه وأحبّه واشتاق إليه، ودعا الخلق إليه، من حيث هو فيه وصَدقه في حاله، يدعو الخلق إلى الله بلسان الأفعال، وصدق المقال، وحلاوة الأحوال، ويذكر لهم شمائل القِدَم وحق الربوبية، ويُعرفهم صفات الحق وجلال ذاته، ويُحبب اللهَ في قلوبهم، وهذا عمله الصالح، ثم يقول بعد كماله وتمكنه: إنني واحد من المسلمين، مِن تواضعه ولطفِ حاله خلقاً وظرافةً، وإن كان إسلامه من قُصارى أي: غاية أحوال المستقيمين.
قال سهل: أي ممن دلّ على الله، وعلى عبادة الله وسُنَّة رسوله، واجتناب المناهي، وإدامة الاستقامة مع الله، ثم قال: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} بيَّن اللهُ هنا أن الخُلق الحسن ليس كالخُلق السيء، وأمر بتبديل الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة، وأحسن الأخلاق: الحلم؛ إذ يكون به العدو صديقاً، والبعيد قريباً، حين دفع غضبه بحلمه، وظلمَه بعفوه، وسوءَ جانبه بكرمه، وفي مظنة الخطاب: أن مَن كان متخلقاً بخلقه، متصفاً بصفاته، مستقيماً في خدمته، صادقاً في محبته، عارفاً بذاته وصفاته، ليس كالمدعي الذي ليس في دعواه معنى.
ثم قال: {وما يُلقاها إِلا الذين صبروا}، بيَّن الله سبحانه ألا يبلغ أحد درجة الخلق الحسن، وحسنات الأعمال وسُنِيَّات الأفعال، إلا مَن تصبّر في بلاء الله، وامتحانه، بالوسائط وغير الوسائط، ولا يتحمّل هذه البليات إلا ذو حظ عظيم من مشاهدته، وذو نصيب من قربه ووصاله، صاحب معرفة كاملة، ومحبة شاملة: وكمال هذا الصبر الاتصاف بصبر الله، ثم الصبر في مشاهدة الأزل، فبالصبر الاتصافي ومشاهدة الأبدي، والحظ الجمالي، يوازي طوارق صدمات الألوهية، وغلبات القهّارية. ثم قال: عن الجنيد: ما يوفق لهذا المقام إلا ذو حظ عظيم من عناية الحق فيه. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6